الخطبة الأولى
الحمد لله العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، اللهُم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي التقوى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا - فمن اتقاه وقاه، وجعل له من كل ضيق مخرجًا.
إخوة الإسلام:
من أعظم مقاصد الإسلام: تحقيقُ المحبة بين المسلمين، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10 ]، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمَثَل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»؛ رواه مسلم.
فمن أصول تحقيق هذا المقصد الأسمى: الحثُّ الأكيد والحضُّ الشديد على سلامة الصدور من الأحقاد والضغائن، وتطهيرها من الغِلِّ والتشاحن، يقول ربنا - جل وعلا - واصفًا عبادَه المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10 ]، فالنجاة في الآخرة والفوز بالجنة لا يكون إلا بقلبٍ سليمٍ من الغش والحقد ومن الحسد، خالٍ من الغِلِّ والضغينة، يقول - سبحانه -: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89 ].
سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيِّ الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان». قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد»؛ رواه ابن ماجه بسندٍ جيدٍ.
واسمعوا لهذا الحديث العظيم الذي ينبغي أن نتخذه نبراسًا لقلوبنا، ضياء يسيِّر اتجاهاتنا وإراداتنا في وقت تعصف بالأمة أمواج المحن والفرقة والشقاق، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسًا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطُف لحيته من وضوئه وقد تعلق نعليه في يده، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل كما طلع في المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالته تلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته ففي قصة طويلة أن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين - تَبِعَه وباتَ معه ثلاث ليال، وكان عبد الله يحدث أنه لم ير لذلك الرجل كثير عمل عن غيره من الصحابة، إلا أنه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه ذَكَرَ الله وكبَّره حتى يقوم لصلاة الفجر، ثم إن عبد الله أخبره بما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه فقال عبد الله: فلم أرَكَ تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه هي التي بلغت بك»؛ رواه أحمد، والحديث سنده حسنٌ عند أهل العلم.
إخوة الإسلام:
من أخطر شيء على دين المسلم وعلى المسلمين جميعًا: أن تمتلئَ القلوب على المسلمين غلًّا وحقدًا، وحسدًا وغشًّا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر الله لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله - جل وعلا -: انظروا هذين حتى يصطلحا»؛ رواه مسلم.
معاشر المسلمين:
اجعلوا شعاركم في جميع مجالات الحياة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»؛ متفق عليه، فحينئذٍ تسعَد الأمة أفرادًا وجماعات.
معاشر المسلمين:
احذَروا من نقل كلام الآخرين بما يُفسِدُ المحبة ويُفرِّق الأُلْفة؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنةَ قَتَّاتٌ»؛ أي: نمَّام؛ متفق عليه.
وتجنَّبوا الكلامَ البذيء والقول السيِّئ؛ فإن الكلمة السيئة تُورِث التباغض، وتُعكِّر صفاءَ القلوب، فربُّنا - جل وعلا - يقـول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53 ]، وتجنَّبوا - أيها المسلمون - تجنبوا الجدل إلا بعلمٍ وحسنِ نيَّة بالله - جل وعلا -، يُحيطُ ذلك حسن تعبير وطيب كلام، وإلا فالمراء والجدل يورث الفرقة بعد الألفة، والوحشة بعد الأنس، قال الإمام مالك - رضي الله عنه -: «المِرَاء يُقسِّي القلوب، ويورث الضغائن».
فكفى - أيها المسلمون - على صعيد الأفراد والإعلام والمجتمعات، كفى جدالا يورث ضغينة وحقدًا، كما ينبغي على المسلم أن يمسك عن كثرة المزاح؛ فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، وكن أيها المسلم ذا ظن حسن بإخوانك المسلمين؛ فقد قال الفاروق عمر - رضي الله عنه -: «لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا».
ومتى وجدتَ في قلبك - أيها المسلم - على أخيك شيئًا لموقف ما، فعليك إبلاغه بالحسنى وعاتِبه باللفظ اللطيف، فمن محاسن الأقوال: «العِتابُ الحسن حدائق المتحابين، ودليلٌ على بقاء المودة».
إخوة الإسلام:
ومن الداء العُضال في أوساط المجتمعات الإسلامية، والذي يملأ الصدور غلًّا والقلوب حقدًا: داءُ حب الشهرة، والحرص على المناصب والرئاسات، قال الفضيل - رحمه الله -: «ما من أحدٍ أحبَّ الرئاسة إلا حَسَدَ وبَغَى وتتبَّع عيوب الناس، وكره أن يُذْكرَ أحدٌ بخير».
فكن - أيها المسلم - راضيًا بما أعطاك الله، فذلك مفتاح السلامة والنجاة، يقول - جل وعلا-: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32 ].
بارك الله لي ولكم في الوَحْيَين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهُم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله - جل وعلا - تُفلِحوا وتفوزوا.
بعد أيام يهِلُّ على المسلمين بإذن الله - جل وعلا - شهر رمضان - بلَّغنا الله وجميع المسلمين صيامَه وقيامَه -، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر به أصحابه، كما ورد بذلك الخبر الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر أصحابه، فيقول: «قد جاءكم شهرُ رمضانَ شهرٌ مبارك ..» الحديث.
وكان من دعاء السلف: «اللهُم سلِّمنا إلى رمضان، وسلِّم لنا رمضان، وتسلَّمه منَّا مُتقبَّلًا يا رحمن».
فكن - أيها المسلم - جوادًا بالخير، مسارعًا إلى الصالحات في أيام عمرك كلها، وكن أجود وأجود في رمضان؛ ففي «الصحيحين» عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة».
فاعمروا هذا الشهر بتلاوة القرآن والصلاة، والصدقة والإحسان، وتقرَّبوا فيه بكل ما يُرضِي الرحمن، واحذروا الغفلة والعصيان، والتفريط في طاعة المَنَّان.
ثم اعلموا أن الله أمَرَنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو: الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهُم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهُم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآل وعن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهُم أعِزَّ المسلمين، اللهُم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهُم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهُم وأذِلَّ الشرك والمشركين، اللهُم وأذِلَّ الشرك والمشركين، اللهُم من أراد المسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، اللهُم من أراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، اللهُم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين بالإيمان، اللهُم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين بالإسلام، اللهُم اجعلنا إخوةً مُتحابِّين على طاعة الرحمن، اللهُم لَا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنُوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيمٌ.
اللهُم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهُم بلِّغنا شهر رمضان، اللهُم بلِّغنا وجميعَ المسلمين شهر رمضان، اللهُم أدخِله علينا بالأمن والإيمان والطاعة والإحسان يا رحمن يا رحيم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهُم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهُم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما فيه خير رعاياهم، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
اللهُم أنت الغني الرحيم، اللهُم أنت الغني الحميد، اللهُم أنزِل علينا الغيثَ، ولا تجعلنا من القانطين، اللهُم أنزِل علينا الغيثَ، ولا تجعلنا من القانطين، اللهُم أنزِل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بكرةً وأصيلًا.