المقدمة:
إذا كانت اللغة كما عرفها أندري لالاند هي نسق من الإشارات والرموز تستعمل للتواصل وتبادل الأفكار ونظرا لأهميتها البالغة، فإن الفلاسفة وعلماء اللغة قد اهتموا بالبحث فيها وبعلاقتها بالفكر ولكنهم اختلفوا فظهر اتجاهان مختلفان احدهما يرى أن اللغة وسيلة للتعبير عن الفكر بينما يرى الأخر عكس ذلك فأي الرأيين على صواب؟
الرأي الأول:
يرى بعض الفلاسفة والعلماء من أنصار الاتجاه الثنائي أمثال هنري برغسون أنه يمكن أن توجد لدى الإنسان أفكار خارج إطار اللغة فالعلاقة بين اللغة والفكر في نظرهم هي علاقة انفصال فاللغة شيء والفكر شيء أخر.
البرهنة:
الفكر أسبق من اللغة فالإنسان يفكر بعقله أولا ثم يعبر بلسانه ثانيا ولأن الفكر أوسع من اللغة يملك الإنسان حشدا كبيرا من المعاني لا تناسبه الألفاظ ويقول برغسون: "الفكر فيض من المعاني وفي تدفق مستمر لا تسعه الألفاظ"، فالتردد أثناء الكلام والتشطيب للعبارات واستبدالها بعبارات أخرى دليل على عدم التناسب بين اللغة والفكر، لذا فاللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر لذا قيل: "اللغة أو الألفاظ قبور المعاني"، فالكثير من الأحاسيس والمشاعر والعواطف تعجز اللغة في التعبير عنها، لذا قيل: "أجمل الأفكار هي التي لا نستطيع التعبير عنها"
وقيل أيضا :"ما أرخص الحب حين يتحول إلى كلمة". فالفكر متصل واللغة منفصلة أي قابلة للتحليل والتركيب فمثلا أنا فرح، فرحت فرحا شديدا عند نجاحي في شهادة الباكالوريا ، بل وان لجوء الإنسان للرسم والموسيقى والنحت والدندنة دليل على عجز لغة الكلام للتعبير تعبيرا دقيقا كاملا عن الأفكار. الفكر ذاتي شخصي أما اللغة فهي موضوعية اجتماعية.
النقد:
لكن أسبقية الفكر عن اللغة أسبقية منطقية عقلية وليست زمنية، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالعجز عن التعبير هو العجز في التفكير أحيانا فإن العيب ليس في اللغة كوسيلة وإنما في الشخص المتكلم.
الرأي الثاني:
على خلاف ما سلف يرى بعض الفلاسفة الآخرين وهم من أنصار الاتجاه الواحدي الأحادي أمثال جون لوك، واطسن، أرسطو، هيغل، دولا كروا وزكي نجيب محمود انه لا يكمن أن توجد أفكار لدى الإنسان خارج نطاق اللغة وإطارها وعليه فالعلاقة بين اللغة والفكر علاقة اتصال فلا فكر بدون لغة ولا لغة بدون فكر وقد عبر عن هذا الرأي هيغل وهو فيلسوف ألماني ذو نزعة مثالية بقوله: "إن الرغبة في التفكير بدون كلمات هي محاولة عديمة المعنى"، وقال زكي نجيب محمود: "ليس هناك شيئان بل هناك شيء واحد هو الفكر والعبارة.."
البرهنة:
استحالة التفكير بدون لغة حيث يقول أرسطو: "ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية"، ونفهم من هذا القول أن اللغة شرط التفكير بل وأساس بناءه لذا قيل: " اللغة هي التي تعطي للفكر وجوده الأسمى والأصح"ن وقيل أيضا: "الألفاظ حصون المعاني". إن اللغة كما قيل لا تحمل الفكر بل هي التي تنظمه وتوضحه، ولقد أثبت علم النفس الطفل أن الطفل يتعلم للغة والفكر في أن واحد.
النقد:
لكن لو كانت اللغة والفكر شيء واحد كما يعتقد أنصار الاتجاه الأحادي فكيف نفسر وجود أفكار لا نقدر على التعبير عنها؟ فقد يملك الإنسان ثروة لغوية هائلة ولا يجد ألفاظا مناسبة للتعبير عن مشاعره وبهذا يكون عدم التناسب بين القدرة على الفهم والقدرة على التبليغ وأننا نفهم أكثر مما نعبر والإنسان نعرف انه يحتوي على مورث ثقافي بواسطة ألفاظه.
التركيب:
يتبين لنا من خلال تحليل الموقفين السابقين أن العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة تأثير وتأثر والاختلاف الموجود بين الاتجاهين اختلاف مذهبي.
الاستنتاج:
لنستنتج في الأخير أنه لا يوجد تطابق بين قدرة الإنسان على الفهم وقدرته على التبليغ وتبين أنه يمكن وجود أفكار لا نستطيع التعبير عنها كالمشاعر والأحاسيس والعواطف لكن هذا العيب ليس راجعا إلى اللغة وإنما في الشخص نفسه ويمكن سد الفراغ الذي تحدثه اللغة عن طريق الإبداع والفن والموسيقى النحت.