تابعي من كبار التابعين قيل أنه سيد التابعين وهو الحسن البصري وسعيد بن جبير، وابن المسيب من فقهاء المدينة السبعة الذين عاصروا الدولة الأموية، الذي قال فيهم الشاعر:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحراً *** روايتهم عن العلم ليست بخارجة
عبـــيــــــد الله عـــــــروة قـاســــم *** سعيــد أبو بكـر سليمــان خارجة
اسمـه ومولـده
هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو المخزومي القرشي، ولد في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقيل أنه ولد بعد أن استلخف عمر رضي الله عنه بأربع سنين، وفي رواية أخرى ولد قبل موت عمر رضي الله عنه بسنتين.
أبوه المسيب بن حزن وهو صحابي من المهاجرين، ومن أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18]
علمــه
أخذ سعيد بن المسيب علمه من مجالس كبار الصحابة، فجالس سعد بن أبي وقاص وابن عباس وعبدالله بن عمر رضي الله عنه، ويقول سعيد عن نفسه: أخذت علمي عن زيد بن ثابت، وكذلك أخذ علمه من أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم أجمعين.
وقيل أخذ ابن المسيب شطر علمه من زيد بن ثابت وأبي هريرة صهره، لأن سعيد بن المسيب زوج ابنته رضي الله عنهم أجمعين.
فكان ذو علم غزير حتى أنه كان يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء كما ذكر ذلك بان القيم في أعلام الموقعين.
وقد قال عنه بعض معاصريه: كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء، فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس، حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب رضي الله عنه كراهية للفتيا، وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء، كما ذكر ذلك ابن القيم في أعلام الموقعين، وجرأته بلا شك كانت على علم ودراية لا على جهل وتسرع كالجهال وناقصي العلم.
وفي خلافة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل كان لسعيد بن المسيب مكانة عظيمة عنده، لماذا؟
لأنه رأى في ابن المسيب العلم والتقوى والصلاح وحصافة الرأي والاجتهاد، حتى أنه كان لا يقضي بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، وكان يقول عنه: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه، وأُُوتي بما عند سعيد بن المسيب.
صفاتـه ودعوتـه
من شمائله أنه كان نظيفاً في مظهره، أنيقاً في ملبسه، فقد وصفه أحد معاصريه: بأنه لا يدع ظُفره يطول، ويُحفي شاربه شبيهاً بالحلق، ويصافح كل من لقيه، وكان جاداً متزناً يكرهُ كثرة الضحك، يتوضأ كثيراً.
وكان يلبس العمامة البيضاء لها علم أحمر يُرخيها وراء ظهره شبراً، وكان يخرج بهذا المظهر في الفطر والأضحى، وكان يصفر لحيته في كبره، فقد كان أبيض الرأس واللحية رحمه الله.
وأما عن فقهه فقد كان فقيهاً واعياً، جاءه عبد الرحمن بن حرملة أحد أصدقائه وسأله قائلاً:
"وجدت رجلاً سكران، أفتراهُ يسعُني أن أرفعه إلى السلطان؟
فأجاب سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره، فلما أفاق الرجل استحى من فعلته وقال: والله لا أعود لهذا أبداً"، أي شرب الخمر.
قال عنه برد مولى بن المسيب: "ما نودي بالصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد بن المسيب في المسجد".
وكان يقول لتلاميذه: "من استغنى بالله افتقر الناس إليه، الدنيا نذلة (أي: حقيرة) وهي إلى كل نذل أميل، وأنذلُ منها من أخذها من غير وجهها ووضعها". (في غير سبيلها).
وجاء في أعلام الموقعين:
إنه لما مات العبادلة وهم عبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص سار الفقه إلى الموالي، فكان فقيه مكة عطاء بن أبي رباح وفقيه اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحي بن كثير وفقيه أهل البصرة الحسن وفقيه أهل الشام مكحول إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع.
من أقـواله
ما يئس الشيطان من شيء من قبل النساء.
ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفُسها إلا بمعصية الله تعالى.
كفى بالمرء نصرة من الله عز وجل له أن يرى عدوه يعمل بعصية الله.
وقال: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس لا ينبغي أن تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال: لا خير فيمن لا يجمع المال من حلُه، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس.
وقال: لا خير فيمن لا يجمع الدنيا يصون بها دينه وحسبه، ويصل رحمه.
وقال: الناس كلهم تحت كنف الله يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله عز وجل فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه، فبدت للناس عورته.
وقال: لا تقولوا مسيجداً ومصيحفاً... بالتصغير... فتصغروا ما كان لله تعالى وهو عظيم جليل.
من سـيرته التي ذكـرت
إنه قدم بعض أمراء المدينة والياً عليها
قال: فأتاه علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبدالله، وذكر نفراً من قريش فقال أيكم سعيد بن المسيب؟
قال فقال له علي بن الحسين : إن سعيداً ليلزم مسجده ويجفو الأمراء
فقال: تأتيني أنت (يعني الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب- والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب) وسمى أولئك الذي أتوه من قريش، ولم يأتيني، والله لأضربن عنقه، ثم والله لأضربن عنقه، ثم والله لأضربن عنقه
فقال علي بن الحسين: فضاق بنا المجلس حتى قمنا فأتيت سعيد بن المسيب فجلست إليه وذكرت له ما قال
وقلت: تخرج إلى العمرة
فقال: ما حضرتني في ذلك نية وأن أحب الأعمال إلى ما نويتُ
قال: فقلت فتصير إلى بعض منزل إخوانك، قال فما أصنع بهذا المنادي الذي ينادي في اليوم خمس مرات والله لا يناديني إلا أتيته
قلت: فتحول عن مجلسك إلى هذا المسجد فإنك إذا طُلبت إنما تطلب في مجلسك
قال: ولم أدعُ مجلساً عودني الله فيه من الخير ما عودني
قال: قلت أي أخي أما تخاف؟
قال: أما إذ ذكرت يا أخي، فإن الله تعالى ليعلم أني لا أخاف شيئاً غيره، ولكن أول ما أقول وأوسطه وآخره حمداً لله وثناءً عليه، وصلاةُ على محمد، وأسأل الله تعالى أن ينسيه ذكري.
قال فمكث ذلك الأمير على المدينة ما شاء الله لم يذكره، قال: فبينما هو ذات يوم على منزل من المدينة وغلام له يوضئه إذ قال للغلام: أمسك واسوأتاه من علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم، إني حلفت أن أقتل سعيد بن المسيب، والله ما ذكرته في ساعة من ليل أو نهار حتى ساعتي هذه، فقال له غلامه: أي مولاي فما أراد الله بك خير مما أردت بنفسك.
(ذكره أبي الفداء في كرمات الأولياء وفيه راوٍ مجول الحال)
وفـاته
استمر سعيد في مجلسه عشرات السنين مفتياً وعالماً ينهل من علمه تابعوه ومحبوه من أهل دار الهجرة وغيرهم، ممن يجيؤون لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم مرض الشيخ الفقيه سعيد بن المسيب واشتد مرضه فدخل عليه نافع بن جبير بن مطعم يعوده في مرضه فأغمي عليه فقال نافع بن جبير: وجّهوا فراشه إلى القبلة فوجّهوا فراشه إلى القبلة فلما أفاق قال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة أنافع بن جبير أمركم؟
فقال نافع: نعم
فقال سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة لا ينفعني توجيهكم لفراشي، ثم قال وهو في فراش المرض: إذا مُتّ فلا تضربوا على قبري فسطاطاً، ولا تُتبعوني بنار، ولا تؤذنوا بي أحداً، حسبي من يبلّغني ربي، ثم توفي يرحمه الله وكان في خلافة الوليد بن عبدالملك بالمدينة في العام الرابع والتسعين من الهجرة وكان عمره خمسة وسبعين عاماً، وقيل لهذه السنة سنة الفقهاء، لموت كثير من الفقهاء فيها.
فرحم الله الشيخ والتابعي الجليل سعيد بن المسيب رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً وعمنا معهم بفضله وجوده وإحسانه إلى يوم الدين.